آراء العلماء في تفسير ظواهر الرسم المصحفي تفسير هذه الظواهر باحتمال خطأ الكاتب والرد على ذلك


 بقلم أ.د/ علي إبراهيم محمد

أستاذ علم اللغة بجامعتي الأزهر وأم القرى

ذهب بعض العلماء إلى أن الظواهر الخاصة بالرسم العثماني ترجع إلى خطأ الكاتب من هؤلاء الفراء حيث يقول عن زيادة الألف في قوله – تعالى -: "وَلَأَوْضَعُوا خِلَلَكُمْ" من الآية 47 التوبة، يقول وكتبت بلام ألف وألف بعد ذلك، ولم يكتب في القرآن لها نظير، وذلك أنهم لا يكادون يستمرون في الكتاب على جهة واحدة، ألا ترى أنهم كتبوا "فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" بغير ياء "وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ" بالياء وهو من سوء هجاء الأولين".

وهذا موقف غريب للفراء، ففي حين يعلل حذف الياء في قوله - تعالى -: "فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" بسوء هجاء الأولين تراه يعلله في مواضع أخرى بعلل لغوية ويستشهد لذلك بما ورد عن العرب.

وذهب إلى هذا ابن قتيبة الذي جعل خطأ الكاتب أحد احتمالين في توجيه ذلك يقول: وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها ، أو أن تكون غلطًا من الكاتب كما ذكرت عائشة - رضي الله عنها - فإن كانت على مذاهب النحويين فليس ههنا لحن بحمد الله ، وإن كانت خطأ في الكتاب فليس على الله ولا على رسوله - - جناية الكتابة في الخط، ولو كان هذا عيبًا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التهجي ، فقد كتب في الإمام "إنَّ هَذَانِ لَسَحِرَنِ" من الآية 63 / طه بحذف ألف التثنية وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان مثل "قَالَ رَجُلَنِ" من الآية 23 / المائدة وكتب كتاب ا لمصاحف: الصلوة والزكوة واتبعناهم في هذه الحروف خاصة على التيمن بهم وهذا أكثر في المصحف من أن تستقصيه.

وقد وصف ابن قتيبة الصحابة - رضوان الله عليهم - بأنهم أميون لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي، جاء ذلك في معرض حديثه عن الجمع بين حديث رسول الله - - "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن فمن كتب عني شيئًا فليمحه "والحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو قال قلت يا رسول الله أقيد العلم قال: " نعم"، قيل وما تقييده؟ قال: "كتابته " قال ابن قتيبة "ونحن نقول إن في هذا معنيين أحدهما: أن يكون من منسوخ السنة بالسنة... والمعنى الآخر: أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئًا للكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي، فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له.

وذهب إلى هذا الرأي عبد الرحمن بن خلدون إذ يقول "فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركًا بما رسمه أصحاب رسول الله.

ثم يقول في موضع آخر " ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط ".

ويبدو أن تفسير ظواهر رسم المصحف بخطأ الكاتب نتيجة لعدم انتشار الكتابة بين الصحابة قول تعوذه الدقة لأنه قول منتقض بكثير من الأدلة التي تدل على أنه كثيرًا من الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يعرفون الكتابة معرفة جيدة، وأن الكتابة لم تكن حديثة العهد عند العرب عندما دون القرآن الكريم، بل إن العرب كانوا يكتبون في جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذي عرفه المسلمون.

من هذه الأدلة التي تدل على ذلك:

أ - كلمة القراءة ومشتقاتها قد وردت في القرآن الكريم الذي هو - بالإضافة إلى صفته القدسية - الأثر العربي الوحيد المسهب المكتوب الذي وصل إلينا كما كتب في عهد النبي - - قد وردت تسعين مرة، وأن كلمة الكتابة ومشتقاتها قد وردت نحو ثلاثمائة مرة، وأن أولى الآيات القرآنية نزولاً آيات العلق قد نوهت بالقراءة والكتابة تنويهًا عظيمًا " {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥﴾} سورة العلق .

ب - أن في القرآن آيات كثيرة منها حكاية لما كان يطلبه العرب في مكة من النبي - - من تنزيل كتاب من السماء ليقرأوه ويصدقوه "{ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ﴿٩٣﴾} سورة الإسراء ، أو تنزيل صحف لكل واحد منهم منشورة ليقرأها" {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ﴿٥٢﴾} سورة المدثر ، ومنها ما يفيد أنه كان عند العرب قصص قديمة يقرأونها ويكتبونها وكانوا يتهمون النبي - - بأنه يستكتبها لتملى عليه بكرة وأصيلا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿٥﴾} سورة الفرقان.

ج - أن القرآن الكريم ذكر القرطاس، والمداد، والقلم، والصحف، والسجل، والرق مرات عديدة بصفتها أدوات كتابة مألوفة مثل آية الأنعام "{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ } ﴿٧﴾ سورة الأنعام، وأية لقمان {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ } ﴿٢٧﴾ سورة لقمان، وآية الطور" {وَالطُّورِ ﴿١﴾ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ﴿٢﴾ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ﴿٣﴾} سورة الطور وكل هذا لا يصح أن يكون لو أن الكتابة والقراءة بين العرب في بيئة النبي كانتا في ذلك النطاق الضيق جدًّا.

د - كان لأهل المدن الحجازية الثلاث رحلات تجارية صيفية وشتوية أشار القرآن الكريم إلى رحلات قريش منها يصلون بها - على ما ذكرته الروايات المعتبرة الكثيرة - إلى بلاد الشام ومصر والعراق وفارس واليمن التي كانت على حظ غير يسير في مضمار الكتابة والقراءة حيث لا يعقل ألا يكون لهم تأثير على العرب يحمل على اقتباس القراءة والكتابة بصورة ما كذلك لاسيما وأعمالهم التجارية تقتضيه.

هـــ - ويمكن الاستدلال أيضًا على شيوع الكتابة بما ذكره الجهشياري وابن عبد ربه، والمسعودي من ذكر أسماء الذين كتبوا لرسول الله - - فقد جعلوهم مراتب وقدروهم منازل ، فكتاب يكتبون بين يديه - - فيما يعرض من أموره وحوائجه، وآخرون يكتبون بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات، وآخرون يكتبون أموال الصدقات، وكاتب يكتب إلى الملوك ويجيب رسائلهم، وكتاب آخرون يكتبون الوحي، ثم يعقب المسعودي بعد أن ينتهي من ذكر أسماء هؤلاء الكتاب واختصاصهم بقوله: "وإنما ذكرنا من أسماء كتابه - - من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبًا ويضاف إلى جملة كتابه".

وقد كانت هذه الكثرة في عدد الكاتبين هي التي دعت عمر بن الخطاب - - إلى أن يقول "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف".

هــ ـــ هناك أحاديث نبوية شريفة تدل على دقة كُتَّاب النبي - - وتدل على أنه - - كان يطبق مع كتاب الوحي مبدأ عظيمًا يدل على الدقة عند المملي والمستملي وهو مبدأ عرض المكتوب بعد كتابته من هذا:

أولا: " عن ابن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبيه عن جده زيد بن ثابت – رضي الله عنهم - قال كنت أكتب الوحي عند رسول الله - - وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة وعرق عرقًا مثل الجمان ثم سرى عنه، فكنت أدخل بقطعة القتب أو كسره فأكتب وهو يملي علي فما أبرح حتى تكاد تنكسر رجلي من ثقل القرآن وحتى أقول لا أمشي على رجل أبدًا فإذا فرغت قال: اقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس ".

وقد ذكر هذا الحديث الخطيب البغدادي، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/152 باب عرض الكتاب بعد إملائه بنحوه وقال رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثوقون وذكره السيوطي في تدريب الراوي وقال إنه مرفوع.

ثانيًّا: روي عن عطاء بن يسار أن رجلا كتب عند النبي - - فقال له النبي - - 

" كتبت " قال: نعم قال: " عرضته " قال: لا قال: " لم تكتبه حتى تعرضه فيصح ".

وقد ذكر هذا الحديث جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي وقال إنه مرسل وقال إنه مرفوع .

كل هذا مما يضعف هذا الاتجاه، ويقلل من الاعتماد عليه في تفسير ظواهر الرسم العثماني


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جامعة 6 أكتوبر تنظم الملتقى الخامس عشر للتوظيف والتدريب بمقر الجامع

شكوى جماعية ضد فساد قطاع الناشئين في نادي الزمالك: "محسوبية واختيارات مشبوهة"

قوات الشرطة تتمكن من القضاء علي شاذلي حسن أخطر العناصر الإجرامية بأسوان