"عاشوراء".. اليوم المشهود والنصر الموعود

الكاتب الصحفي/ حسين الطيب 

بقلم / حسين الطيب 
ضرب الإمام الحسين رضي الله عنه أعظم وأروع الأمثلة في قول الحق في جميع المواقف دون الاعتبار لقوي أو ضعيف أو حاكم ومحكوم. وليس ذلك وحسب، بل ضحى وبذل المال والجهد والنفس والأهل والولد في سبيل إحياء سُنة جده رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين إلى يوم الدين. فاعتلى جواد الشجاعة وأمسك بسيف العدل واكتسى بعباءة الشهادة في سبيل الله، وأعلن رفضه التام للظلم والطغيان وتولي أمور المسلمين من السفهاء والحمقى وأرباب كؤوس الخمر، متحديًا ناقضي العهود ومخالفي تعاليم رب العالمين ورسوله الأمين.

وقد جاء هذا بعدما نقض معاوية بن أبي سفيان عهده مع الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما حينما تنازل الإمام الحسن له عن الخلافة لحقن دماء المسلمين، بميثاق مشروط أن تكون الخلافة بعد معاوية شورى بين المسلمين. ولكنه للأسف نقض عهده وطالب بالبيعة لابنه يزيد في حياته، مما يعتبر خيانة لأمانة العهد الذي أبرمه مع الإمام الحسن رضي الله عنه، وسُنَّة سيئة وتلاعبًا بشرع رب العباد، ومخالفة لتعاليم نبينا الوفي للعهود حتى مع اليهود والمشركين. وصلح الحديبية ومروياته خير شاهد، وكذلك عهده مع يهود المدينة يضربان أعظم الأمثلة في الوفاء بالعهود، فما بالكم بالمسلمين.

ولذا كان يوم عاشوراء فارقًا في حياة المسلمين، ويعتبرونه يومًا مشهودًا للشهادة في سبيل نصرة الله ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه. ولأن أرباب المطامع الدنيوية دائمًا ما يشيعون الفوضى لتحقيق أغراضهم، حيث دائمًا ما تكون الفوضى رحمًا رحبًا للفتنة، ودائمًا ما يشعلها أصحاب المصالح والطامعون في السلطة والسلطنة.

وها نحن نرى اشتداد الصراع من جهة بين معاوية وابنه، وبين صحابة رسول الله والتابعين من جهة أخرى، وهم الرافضون لنصرة الباطل. ففعلوا ما بوسعهم من أجل الوقوف حائلًا بين ما جاء به الإسلام من القضاء على القبلية وعصبيتها، وبين ما يريده معاوية وابنه يزيد من بعث العصبية والقبلية والحمية الجاهلية من مرقدها من أجل ارتواء عطشهم للحكم والملك حتى بدا الصف ينشق من جديد.

وسرعان ما أخذ الباطل يشتد عوده، ويجمع أرباب شيطانه حوله، فينفخون في شرارات ناره حتى توفي معاوية (60 هـ)، وأخذ الباطل يكشف عن حقيقته بعدما خلع عنه عباءة الوداعة والفضيلة، حتى بات اغتصاب الحكم شريعة الأمويين. فأخذوا يضربون بكل قوة صفوف صحابة وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما قلنا سابقًا دارت رحى الفتنة بين مؤيد ومعارض، ومنتفع وزاهد، وتأججت الأحوال من جديد.

وكان لابد من نصير للحق رافعًا للراية الإسلامية مثبتًا لشريعة رب العالمين، وعاملًا بخُلق القرآن، وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم. فكان الإمام الحسين حفيد رسول الله العظيم، نور عرشه العظيم، رافضًا البيعة ليزيد بن معاوية، رافضًا أن يكون الباطل هو الأعلى صوتًا في جنبات المجتمع الإسلامي، وأن تتحول الشورى في الخلافة إلى مُلْك موروث. فكان أول من وقف ضد التوريث في التاريخ، وصاح صيحته التي أشعلت لهيب الثورة ضد الظلم والطغيان، فأنار بها طريق الحق لكل مظلوم ضد حاكم ظالم وطاغية فاسد.

ولعل البعض يظن أن سيدنا الحسين قرر رفض البيعة طمعًا في الإمارة، ولكن الحقيقة أنه أبدًا ما كان هذا، وإنما كان من أجل إحياء سُنَّة جده نبينا المختار المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم. فناصره أهل العراق في بادئ الأمر، وكان يعلم أنهم آجلًا أم عاجلًا سيخذلونه وينقضون عهدهم معه.

وهكذا أعلن يوم عاشوراء عن نفسه بأنه يوم التفريق بين الحق والباطل، وأنه مثل يوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه. فكانت الحرب الشعواء بين أهل الحق وأرباب الباطل على أشدها. فكان الخزي والعار من نصيب الباطل، وإن كان ذا نصر مزيف متوج بالعار على مر الزمان والأيام حتى قيام الساعة، بينما ضحى أهل الحق والحقيقة من أجل إعلاء مبادئ وقيم وأسس الدين الحنيف.

واستمر إمام الثائرين ونصير الحق والمستضعفين، سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في طريق الحق، حتى دارت رحى المواجهة الكبرى (سنة 61 هـ) بينه وبين عبيد الله بن زياد والي الكوفة، والذي اشتهر عنه تفانيه في تعذيب معارضيه. وكان الذي أشار على يزيد بن معاوية بتولي ابن زياد أمر الكوفة إضافة إلى البصرة، أحد مستشاريه من المجوس، وكان يدعى (سرجون).

وبعد فاصل من المطاردات والمناورات منع ابن زياد وأتباعه الماء عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقتلهم عطشى. وحينما صاح سيدنا الحسين فيهم: "إن كنتم تمنعون عنا الماء، وتحولون بيننا وبين الفرات، فما ذنب الأطفال؟ فما ذنب هذا الصغير أن يصرخ من العطش؟" فناداه أحد الأشرار وهو يرمي عليه بسهم قائلًا: "اسقه هذا"، واستقر السهم في قلب الصغير (عبدالله بن الحسين رضي الله عنهما)، فكان أطفال آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل شهداء معركة كربلاء.

وفي الليلة المحتومة تحدثت السيدة زينب رضي الله عنها إلى أخيها - الإمام الحسين رضي الله عنهما - : "أليس لنا بُد آخر عن ذلك يا أخي؟" فقال لها: "أترُدينني عن قدر كان لي مقدرًا؟" (فعن عبد الله بن وهب بن زمعة في مستدرك الصحيحين وطبقات ابن سعد وتاريخ ابن عساكر وغيرها واللفظ للأول قال: أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطجع ذات ليلة للنوم، فاستيقظ وهو حائر، ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيت به المرة الأولى، ثم اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقبلها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ قال: "أخبرني جبريل عليه السلام، أن هذا يقتل بأرض العراق للحسين، فقلت لجبريل: أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها").

فأومأت السيدة زينب برأسها واستودعته عند الله شهيدًا سيدًا لشباب أهل الجنة. وحطت كربلاء أوزارها، واستشهد فيها إمام الثوار وقائد الأطهار سيدنا الإمام الحسين الذي كان وريثًا لجرأة وشجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبما جاء في الحديث الشريف: "الحسن سؤددي وجاهي، والحسين جُرأتي وشجاعتي"، فكان أول من استشهد فداءً وفدوًا للحق.

ولولاه ومواقفه المشهودة ما كان لامرئ مسلم أن يقف ضد حاكم ظالم، ودعاة توريث طوال حياتهم، ولا يترك الأمر للطغاة يمرحون ويلعبون بمقدرات شعوبهم دون سند تاريخي أو شرعي في مواجهة الظلم والتوريث. ولكان الفقه الناقص بأن الخروج عن الحاكم مفسدة أكبر من فساده، هو رأي فقهي يحمل في طياته الكثير من الخبث السياسي، حتى يعمر الملوك الفاسدون في ملكهم ولا يخرج عليهم أحد خوفًا من الفساد والفتنة. وهو بذلك حكم مطلق ليس له نهاية تحت مسمى سلطان غشوم ولا فتنة تدوم.

ورغم أنف متنطعي الفتاوى الناقصة، فسيظل الإمام الحسين علمًا رفرافًا لكلمة الحق في وجه كل سلطان ظالم، يسطر التاريخ سيرته بين دفتي صفحاته بلآلئ من نور النبوة المحمدية.

ونختتم كلماتنا والتي ليس لكلمات الحق نهاية بما سجله الكاتب والمفكر الإسلامي الراحل (خالد محمد خالد)، الذي كانت له رؤية مبصرة بما حدث، فدونها في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء)، شارحًا فيها الموقف البطولي للإمام الحسين رضي الله عنه. ونشم من كلماته رائحة الفخر والعزة والكرامة بذاك الموقف الذي سيظل رغم جهل البعض، وحقد الكثير، وخوف الملوك والسلاطين من ذكر سيرة سيدنا الحسين، لأنها بالنسبة لهم أكثر المواقف في التاريخ قوة وصلابة وتحفيزًا ضد كل ظلم واستبداد ودكتاتورية. ولذلك كانوا يحجبونها من كتب التاريخ، ولكن الله متم نوره رغم أنف نطعاء الدين.

ونقرأ كلمات المفكر خالد محمد خالد ..التى سطرها بروحه لا بقلمه فيقول: من الصعب أن نجد فى تاريخ البشرية كله يومًا كذلك اليوم الفريد والمجيد, وأبطالاً كهؤلاء الأبطال الشاهقين والباهرين, إذ لم يكن فى الأمر فى ذلك اليوم أمر شهداء لمناياهم فى استبسال وغبطة, ولا أمر جيش خرج لجيش مثلهم فأبلوا أحسن البلاء, إنما الأمر الذى شغل الدنيا فى يوم كربلاء, هو أنه اليوم الذى تجلت فيه قداسة الحق وشرف التضحية أيام الرسول صلىالله عليه وسلم, وفيما تلا عصره الرائد العظيم من عهود وعصور, بيد أن يوم كربلاء تبقى له سمته المجيدة وميزته الفريدة, فالقضية التى دار من أجلها الصراع, والقلة الصامدة الماجدة التى وهبت حياتها لتلك القضية, والطريقة التى دار بها القتال بين أربعة آلاف فارس من جيش بن زياد, واثنين وسبعين- لا غير- هم أنصار الإمام الحسين, والأحداث المروعة التى سبقت ذلك اليوم, والحصاد الأليم والعظيم الذى خلفه بعد أن مالت شمسه للغروب, كل ذلك يجعل من يوم كربلاء يومًا فريدًا فى تاريخ الآلام والبطولات, فى تاريخ التضحية والمجد, فى تاريخ المأساة والعظمة, وفى تاريخ الحق الذى شهد فى ذلك اليوم, ورغم هزيمة أبطاله سيادة وانتصارًا قرت بهما عيناه .. إن أعظم ما صنع الحسين وأهله وصحبه فى ذلك اليوم, أنهم جعلوا الحق قيمة ذاته ومثوبة نفسه, فلم يعد النصر مزية لهم, ولم تعد الهزيمة ازدراء به, لقد وقف اثنان وسبعون بطلاً أمام قائدهم العظيم أبى عبد الله الحسين, ليس لهم فى إحراز النصر على عدوهم أدنى أمل, وليس أمامهم سوى القتل بأسلحة خصم فاجر متوحش مسعور, وأمامهم فرص النجاة إذ هم أرادوها, لكنهم رفضوا النجاة ما دامت ستكون غمطًا لقداسة الحق وثلمًا لشرف التضحية ..!!
وهكذا راحو يقاتلون حول قائدهم الممجد, معانقين المنايا واحدًا بعد واحد, وهم يصيحون, بل يغنون: الله والجنة, الله والجنة. 
من أجل ذلك, نرفض الوقوف عند اعتبار كربلاء مأساة للبكاء والعويل, ونمد بصرنا حول مضمونها الصحيح, وجوهرها النضير, فنراها مهرجانًا للحق, وعيدًا للتضحية ليس لهما نظير .. إنه يوم لم يعرف المسلمون بعد حقه عليهم ولا واجبهم تلقائه, وأن الأقدار لم تدع رؤوس أبناء الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام تُحمل على أسنة رماح قاتليهم, إلا لتكون مشاعلاً على طريق الأبد للمسلمين خاصة, وللبشرية الراشدة كافة, يتعلمون فى ضوئها الباهر أن الحق وحده هو المقدس, وأن التضحية وحدها هى الشرف, وأن الولاء المطلق للحق والتضحية العادلة فى سبيله هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان والحياة قيمة ومعنى ..!!

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جامعة 6 أكتوبر تنظم الملتقى الخامس عشر للتوظيف والتدريب بمقر الجامع

شكوى جماعية ضد فساد قطاع الناشئين في نادي الزمالك: "محسوبية واختيارات مشبوهة"

قوات الشرطة تتمكن من القضاء علي شاذلي حسن أخطر العناصر الإجرامية بأسوان